بافيت وغيتس- كيف غيّر العمل الخيري وجه الرأسمالية والاستثمار؟

المؤلف: شريف عثمان09.01.2025
بافيت وغيتس- كيف غيّر العمل الخيري وجه الرأسمالية والاستثمار؟

في تحول تاريخي، لن يعتلي وارن بافيت، الرئيس التنفيذي المخضرم لـ "بيركشاير هاثاواي"، منصة الاجتماع السنوي للشركة في العام القادم. وسيتولى غريغ أبيل، خليفته المُختار، هذا الدورَ الهام. سيشغل بافيت، بعد أن صوت مجلس الإدارة على بقائه رئيسًا لمجلس الإدارة بعد تنحيه عن منصب الرئيس التنفيذي، مقعدًا متواضعًا بين أعضاء مجلس الإدارة في الصفوف الأمامية، أسفل المنصة.

قبل شهر تقريبًا، أعلن بافيت عن قراره الحاسم بتسليم مقاليد القيادة في نهاية العام، ليعهد بمهمة إدارة هذا التكتل الاستثماري الأسطوري، الذي يمتلك فائضًا نقديًا يقارب 350 مليار دولار، إلى شخصية ذات خبرة طويلة في مجال إدارة الأعمال، بما في ذلك قيادته لوحدة المرافق في "بيركشاير".

تعود جذور قصة وارن بافيت مع "بيركشاير هاثاواي" إلى ستينيات القرن الماضي، عندما كانت الشركة متخصصة في إنتاج النسيج والقطن. في ذلك الوقت، لاحظ بافيت أن أسهم الشركة يتم تداولها بأقل من قيمتها الجوهرية.

في عام 1962، اتخذ بافيت قرارًا جريئًا بشراء كميات كبيرة من أسهم الشركة بأسعارها المتدنية، معتقدًا أنها قادرة على تحقيق أداء أفضل في المستقبل. ومع ذلك، اصطدم بافيت بإدارة مُتصلبة ترفض تبني استراتيجيات التطوير، مما دفعه إلى زيادة حصته تدريجيًا حتى سيطر عليها بالكامل في عام 1965، ليبدأ بذلك حقبة جديدة ومثيرة في تاريخ الشركة.

سرعان ما أدرك بافيت أن صناعة النسيج في الولايات المتحدة تواجه تحديات جمة وتتجه نحو الانحدار، لذلك قام بتحويل "بيركشاير هاثاواي" إلى شركة قابضة عملاقة تستثمر في مجموعة متنوعة من الشركات والأعمال ذات الربحية العالية. بدأ بافيت بشراء حصص في شركات مثل "جيليكو للتأمين" وصحيفة "واشنطن بوست"، ثم وسّع نطاق استثماراته ليشمل قطاعات أخرى متنوعة، بدءًا من الطاقة وصولًا إلى السلع الاستهلاكية.

وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، تحولت "بيركشاير" إلى قوة استثمارية عالمية، مستندة إلى فلسفة بافيت المميزة التي تركز على الاستثمار طويل الأجل في الشركات التي تتمتع بـ "ميزة تنافسية مستدامة"، كما يحب أن يسميها.

تحت قيادة بافيت الحكيمة، شهدت قيمة "بيركشاير" نموًا استثنائيًا، حيث ارتفع سعر السهم الواحد من 19 دولارًا في عام 1965 إلى أكثر من 760 ألف دولار وقت كتابة هذه السطور، وهو إنجاز مذهل يعكس الرؤية الثاقبة والقدرة الفائقة على اتخاذ القرارات الصائبة.

أما ثروة بافيت الشخصية، فقد ارتفعت بشكل ملحوظ من مليون دولار عندما بدأ شراء أسهم الشركة إلى أكثر من 160 مليار دولار، مما جعله شخصية بارزة وضيفًا دائمًا في قائمة أغنى أغنياء العالم على مر السنوات الأخيرة.

وفي مفارقة لافتة، اتخذ بافيت في عام 2006 قرارًا نبيلًا بالتبرع بأكثر من 99% من ثروته قبل وفاته، ووجه معظم تبرعاته السخية إلى مؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية، مؤكدًا تصميمه على عدم تحويل ثروته الضخمة إلى إرث عائلي، بل استخدامها في مكافحة الفقر والمرض. وأصر بافيت على التبرع بأسهمه في "بيركشاير" ليؤكد للجميع أن "المال يجب أن يعود إلى المجتمع الذي ساعد في تكوينه ونموه".

في عصر طغت عليه الأرقام والمؤشرات المالية، وأصبح فيه "العائد على الاستثمار" هو المعيار الوحيد للنجاح، يطل علينا هذا الملياردير البالغ من العمر 94 عامًا ليذكرنا بأن المال ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق غايات أسمى. ويؤكد لنا أنه حتى في ظل اللهفة المحمومة وراء الأرباح التي نشاهدها ليلًا ونهارًا على الشاشات، لا يزال بإمكاننا استخدام الاستثمار كقوة إيجابية لإحياء القيم الإنسانية التي كادت تندثر.

لم يكن قرار بافيت بالتبرع بثروته مجرد نزوة عابرة، بل كان جزءًا لا يتجزأ من رؤية طويلة الأمد تجسدت على مر السنين. فقد بدأ هذا "الثعلب العجوز"، كما يحلو للبعض تسميته، قبل عقدين تقريبًا في تنفيذ خطة مُحكمة للتخلي تدريجيًا عن ثروته لصالح المؤسسات الخيرية.

وفي كل عام تلا ذلك، ساهم بافيت بمليارات الدولارات لدعم قضايا إنسانية متنوعة، حتى تجاوزت تبرعاته الإجمالية ما يقارب 57 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم يعكس مدى التزامه الجاد بقضية العطاء ورد الجميل للمجتمع.

وخلافًا لبعض رجال الأعمال الآخرين، لم نسمع يومًا عن تهرب بافيت من دفع الضرائب، أو قيامه بإخفاء أموال سائلة في منزله، ولم نشهد نزاعات حادة بينه وبين أفراد أسرته وصلت إلى حد مطالبتهم بالحجر على ثروته، على الرغم من بلوغه سنًا متقدمة جدًا.

لقد آمن بافيت إيمانًا راسخًا بأن ثروته يمكن أن تُسخَّر لخدمة الآخرين بدلًا من أن تبقى حبيسة صناديقه الاستثمارية. وقد عبّر عن هذه الفلسفة بوضوح تام، قائلًا إنه حتى لو أنفق أكثر من 1% من أمواله على نفسه، فلن تزداد سعادته أو رفاهيته، في حين أن الـ 99% المتبقية قادرة على إحداث تأثير هائل في حياة وصحة الآخرين. وبهذا المنطق البسيط والنبيل، أرسل بافيت رسالة قوية مفادها أن الثروة هي مسؤولية اجتماعية قبل أن تكون امتيازًا شخصيًا.

أحدثت خطوة بافيت النبيلة صدى واسعًا في أوساط مجتمع المال والأعمال. ففي بيئة يسودها السعي المحموم وراء تحقيق المكاسب المادية، جاءت تصرفاته لتكسر النمط السائد وتقدم نموذجًا فريدًا للرأسمالية الأخلاقية، إن صح التعبير. لقد أصبح بافيت رمزًا لما يمكن أن نسميه "الاستثمار البشري"، حيث يتم توجيه عوائد الاستثمار الضخمة لتحسين حياة الناس، وخاصة الفئات الأكثر ضعفًا.

وقد تأثر العديد من كبار المستثمرين ورواد الأعمال بهذه الفكرة الملهمة، مما دفعهم إلى إعادة النظر في كيفية استخدام ثرواتهم الهائلة.

أطلق بافيت بالتعاون مع بيل غيتس مبادرة عالمية طموحة تحمل اسم "تعهد العطاء" (The Giving Pledge)، بهدف تشجيع أثرياء العالم على التبرع بما لا يقل عن نصف ثرواتهم للأعمال الخيرية والإنسانية.

وقد استجاب بالفعل العشرات من أصحاب المليارات لهذا النداء الإنساني، مؤكدين أن النجاح المالي يمكن أن يقترن بالمسؤولية الاجتماعية والإنسانية، وأن مثل هذه المبادرات يمكن أن تضخ جرعة من الأمل في روح النظام المالي، وتذكرنا بأن التكافل والتراحم ليسا مجرد مفاهيم غريبة حتى بين أصحاب الثروات الطائلة.

وإلى جانب وارن بافيت، برزت أسماء لامعة أخرى تبنت نهج الاستثمار في خدمة الإنسانية، وكان من أبرزها بيل غيتس، المؤسس المشارك لشركة مايكروسوفت وأحد أثرى أثرياء العالم سابقًا.

لقد كرس غيتس جزءًا كبيرًا من حياته بعد تنحيه عن إدارة مايكروسوفت للعمل الخيري من خلال مؤسسته التي يديرها بالاشتراك مع زوجته السابقة ميليندا. ولم يكتفِ بالمساهمة الفعالة في المشاريع الخيرية، بل أعلن صراحةً عن نيته التبرع بكامل ثروته الشخصية تقريبًا خلال العقدين القادمين، بحيث يتم توجيه ما يقارب 200 مليار دولار لمساعدة الفقراء والمحتاجين حول العالم عبر مؤسسته بحلول عام 2045.

أكد غيتس أنه لا يرغب في أن يُذكر بعد وفاته بأنه "مات ثريًا"، مؤكدًا عزمه على تسخير ثروته لحل المشكلات الملحة في مجالات الصحة والتعليم والتنمية المستدامة.

لقد أصبحت مؤسسة بيل وميليندا غيتس مثالًا حيًا على القوة الهائلة لرأس المال عندما يتم استخدامه لخدمة البشرية جمعاء. فقد أنفقت المؤسسة أكثر من 100 مليار دولار على مشاريع تهدف إلى مكافحة الأمراض المستعصية والفقر المدقع ودعم التعليم حول العالم خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من عملها، لترسل بذلك رسالة واضحة مفادها أن الثروة عندما تقترن بالرؤية الإنسانية تصبح قوة إيجابية جبارة قادرة على تغيير حياة الملايين.

لم يكن غيتس وبافيت سوى جزء من تيار أوسع ينمو بهدوء داخل المنظومة المالية العالمية، مما يقودنا إلى قراءة أخلاقية وإنسانية لعالم الاستثمار المعاصر.

فالرأسمالية ليست بالضرورة مرادفًا للجشع والطمع، بل يمكن للرأسمالية، بقيادة ضمائر حية ومبادئ أخلاقية راسخة، أن تكون وسيلة فعالة لخدمة الإنسانية جمعاء. تكشف لنا قصة وارن بافيت وتجارب كبار المتبرعين الآخرين أن التعاطف والإحساس بالمسؤولية الاجتماعية يمكن أن يجدا مكانًا لهما حتى على طاولة صفقات البورصة. فاليوم، يتزايد عدد المؤمنين بأن عظمة الإنسان لا تقاس فقط بما حققه من ثروة طائلة، بل بما قدمه من خير وما أحدثه من فرق إيجابي في حياة الآخرين، ليكون الربح الحقيقي والأجمل هو ما يعود بالنفع على البشرية جمعاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة